في الطريق إلى تدمر، المدينة السورية العريقة الجميلة بآثارها، لا
يتشوق لها إلا من رآها ورأى آثارها ولو لمرة واحدة في التلفاز، فيقفز القلب لها إن
كنت في أراضي الدولة السورية، أو إن كنت سائحا لزيارتها.
في الطريق إلى هناك لافتات تقول:-
تدمر 270كم
تدمر 40كم
وعند الوصول ستسمع صوتا باللهجة السورية "ها دول ما شوفناهم ولا مرة بحياتنا".
الدولة السورية والتي حولت هذا المعنى الجميل والمعبق بآثاره وتاريخه
الطويل والممتد في الجذور الأرضية والكبرى لدى سوريا، حولته إلى سجن قبيح يملؤ
الأرض حزنا لدخوله.
هذا الاسم "في الطريق إلى تدمر" يصح عنوان للفيلم الوثائقي
"رحلة إلى الذاكرة" للمخرجة السورية هالا محمد والتي عرضت على قناة
الجزيرة ضمن سلسلة "أدب السجون".
في الفيلم تروي المخرجة وخلال سير الحافلة الصغيرة ما يقارب 400 كم
قصة 3 رجال (غسان جباعي"مخرح مسرحي"، وياسين الحاج صالح"كاتب"، وفرج
بيرقدار"شاعر")، دخلوا
هذا السجن في أعمار الشباب المختلفة، وقضوا ما بين 10 – 16 سنة، لم يعلموا خلالها
لأنهم شباب وفي مرابع عمرهم السجن وهذه المنطقة التي تحوي السجن هي منطقة ومكان
مدينة، وتحوي فيه مجتمعا كاملا، إلا أنهم هم الوحيدون المجتمع المنقطع في ذلك
المكان.
تبدأ قصص الكهول الثلاثة عند الخروج من دمشق لنقلهم إلى سجن رئيسي بعد
الخلاص من التحقيق معهم كمعارضين ومنضوين تحت حزب سياسي آخر، غير حزب البعث السوري
المعترف فيه والوحيد في فترة سوريا البعثية. لكن المفاجأة الكبرى كما يرويها
السجناء الثلاثة أن طريقة التعامل خلال الخروج من مكان الاحتجاز لا توحي بأنهم
ذاهبون إلى سجن درعا الشهير بسمعته السيئة، والذي تنطبق عليه لديهم جملة
"الداخل مفقود، والخارج مولود".
تبدأ المخرجة قصة فيلمها الوثائقي، عندما تخرج الحافلة التي يركبها
السجناء الثلاثة والمفرج عنهم في فترات متفاوتة من مدينة دمشق باتجاه مدينة درعا
في الشرق السوري، وتنطلق حكاية الألم في رواية كل منهم، فتبدأ القصة مع السجن
وانتقاله، وما تعرض له من أذى وصعوبات خلال فترة أسره.
لكن الصعوبة التي يجدها المشاهد في متابعته، أن المخرجة وطريقة التشويق
في الصورة والصوت أتت بالتزامن كلما اقتربت الحافلة من درعا، فهي تجتذب المشاهد مع
القصص التي تروى عبر تركيزها على الكارمات المنتشرة على الطريق، والتي ما إن تنظر "الكاميرا"
إلى الكارمة، حتى يجد المشاهد نفسه يقترب من درعا، وتزداد قصص السجناء ألما، حتى
تصل في ذروتها إلى العلو.
في الحديث عن فترة الخروج، كل ما يرويه السجناء الثلاثة هو محض حياة
بسيطة، تعودوا فيها الذل والمهانة، وعودوا أنفسهم على حياة بسيطة لا غلو فيها،
وليس فيها أي تفكير في الحياة الخارجية، ولا أمل لهم في الخروج من السجن، لدرجة أن
ياسين وصف نفسه بعدما قضى 9 سنوات في السجن، أنه أصبح كاليونانيين في التعامل مع
الروح، فالروح عنده متجسدة في الأشياء الكمالية، ودائما ما كان يرسم المثاليات
والكماليات في عقله كالحياة والعلاقات مع الناس والمرأة و.... .
ويقول ياسين عن المرأة: "في السجن تشكلت لدي نساء عديدات في مخيلتي،
كنت أخترعهن من خيالي، ولاحقا تشكلت لدي الصورة المثلى للمرأة، وعندما خرجت من السجن،
ملأ قلبي الفراغ، وأي امرأة واقعية ستُظلم أمام الصورة المثلى لتلك المرأة الخيال.
لن تستطيع أي امرأة سد ذلك الفراغ في قلبي".
هذه الانطباعات التي يتكلم بها السجناء الثلاثة، تجعل في نفسك حقدا
دائما على كل ظلم يخرج من أجهزة الأمن التي تتعامل بهذه الطريقة، وما ابتكروه
وفعلوه بالأسرى السياسيين دون أي وجه حق، ودون أن يكون الحق باتهام يُقرر فيه مصير
حياتهم بأن يحاكموا، فيعلم أحدهم كم سيقضي ؟!، ومتى سيخرج ؟!، وما الذي سيفعله في
حياته ؟!.
للفيلم رونقة خاصة على كل مشاهد أن يتابعه لكي يعرفها، ولا يصل في
درجة متابعته إلا في التركيز على الشخصيات ونبرات صوتها وعبرات وجهها، وأساهم على
الماضي الذي ضاع لحبهم للوطن، دون أن يبذل "الوطن" وشعبه أي خدمة لهم،
ولو بتذكرهم.
الفيلم سيملأ قلوب البعض حزنا، ويبكي على حال وصلت له الدول من
"انتهاكات"، بل من عجائز الأمور والتي إما أن تحكي عنها أو أن تدفن مع نعش
القبور.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أي تعليق مسيئ أو يحوي على كلمات لا أخلاقية سيتم حذفه .. شكرا لكم